الشرق الأوسط

لبنان: حقوق الإنسان والقضاء والكيل بمكيالين

قبل عامين، أصدر ناشطون حقوقيون في لبنان تقريراً يوثق حالات التعذيب والاعتقال التعسفي من قبل الأجهزة الأمنية بينما مروا عرضاً على حالات تعذيب قام بها عناصر"حركة أمل" و"حزب الله". استفز الاتهام رئيس "حركة أمل" ومجلس النواب نبيه بري فلاحق الناشطين بتهم قضائية يمثلون بسببها اليوم أمام المحكمة وسط تساؤلات عن استقلالية القضاء وحجم التدخلات السياسية فيه.

أرشيف-فرانس24
إعلان

"العدل أساس الملك".. لا تختلف هذه العبارة التي ترتفع على مدخل "قصر العدل" في بيروت عن مثيلاتها في الكثير من المحاكم. لكن هذه العبارة كما لافتة "قصر العدل" يبدو أن زمناً طويلاً قد مر عليهما فبهتت ألوانهما وسقطت بعض الأحرف منهما. قد لا تستوقف اللافتة العابرين اليوميين في تلك المنطقة المزدحمة بالمباني الرسمية، لكن لونها الباهت يصبح فاقعاً لمن يزور "قصر العدل" لمتابعة قضية تثير تساؤلات كثيرة عن استقلالية القضاء وحجم التدخل السياسي الذي يفرغ "العدل" من كونه  "أساس الملك".

"حركة أمل" والناشطون الحقوقيون
تتمثل هذه القضية بالدعوى التي تقدم بها رئيس مجلس النواب نبيه بري، بصفته رئيساً لـ"حركة أمل"، بحق الناشطين في "المركز اللبناني لحقوق الإنسان" وديع الأسمر وماري دوني. الدعوى ليست جديدة، فقد أتت على خلفية تقرير أصدره المركز عام 2011 تحت عنوان "الاحتجاز التعسفي والتعذيب: الواقع المرير في لبنان"، وفيه توثيق لطرق التعذيب الوحشية التي تمارسها أجهزة الدولة، من فرع المعلومات إلى مخابرات الجيش، فضلاً عن الاعتقال التعسفي وروايات المُعذَّبين. ليس هذا فقط ما استفز الحركة ورئيسها بل ما ورد في الصفحتين 25 و29 من التقرير عن ضلوع "حزب الله" و"حركة أمل" في ممارسة التعذيب بحق المعتقلين لديهما (والمتهمين بالعمالة لاسرائيل)  قبل تسليمهم الى الأجهزة الأمنية. حينها لم يعلق الحزب، بينما اعترفت الأجهزة الأمنية بعمليات التعذيب لديها وإن بقيت "قاصرة عن معالجة المشكلة إلى حد كبير"، حسب ما يقول الأسمر لـ"فرانس 24". أما الحركة فاتهمت معدي التقرير بـ"إثارة النعرات الطائفية" و"إثارة الشقاق في صفوف الأمة" فضلاً عن تهمتي القدح والتشهير.

الخوف من القضاء
خلال الأسبوع الماضي مثل كل من الأسمر ودوني أمام القاضي، بينما ينتظران المحاكمة في شهر حزيران/ يونيو المقبل. انتظار تشوبه الكثير من المخاوف على حرية عمل الناشطين الحقوقيين، فكما يقول الأسمر "أن يتقدم الشخص الثاني (نبيه بري) في الدولة بدعوى ضد ناشطين حقوقيين وبتهمة خطيرة فمعنى ذلك التضييق على العمل الحقوقي.. وهذا لا يحصل إلا في الأنظمة الديكتاتورية". تبدو دوني أكثر تحفظاً في الكلام، لكنها تعتبر القضية "خطيرة"، أما الاتهام بـ"إثارة النعرات الطائفية" و"التمويل المشبوه" فهو محاولة لشيطنة المؤسسات الحقوقية التي تستنكر التعذيب بدلاً من محاسبة ممارسي التعذيب. يضيف الأسمر "لقد فعل القاضي خيراً بإسقاط تهمتي إثارة النعرات الطائفية وبث الشقاق في صفوف الأمة لكنه أبقى على تهمتي القدح والتشهير". الخوف بالنسبة للحقوقيين، حسب الأسمر، هو في تدخل السياسيين في عمل القضاء، "كيف لا؟ والتشكيلات القضائية تمر عبرهم (السياسيين)". وفي هذه القضية، لم يكن القضاء مطمئناً بالنسبة للناشطين، فـ"عندما طلبنا، رداً على اتهامنا بتلفيق التهم لحركة أمل، أن نحضر الشهود شرط حمايتهم كان رد القاضي بأن المحكمة الدولية لم تستطع حماية شهودها في لبنان فكيف يمكنني حماية شهودكم؟".

من يحرر القضاء من السياسة؟
هذه الحادثة ليست الأولى في لبنان ولن تكون الأخيرة. لكنها تعيد النقاش إلى مربعه الأول، حيث تكثر التساؤلات عن مدى استقلالية القضاء عن السلطة السياسية. "الحوادث كثيرة في لبنان، ولا تنفك تتكاثر في المناخ السياسي والتشريعي الذي يطغى على البلاد حاليا". يُذكّر المحامي نزار صاغية، الناشط في مجال حقوق الإنسان، بحادثة النائبين اللذين اقتحما مكتب القاضي في طرابلس مع مسلحين دفاعاً عن أحد المتهمين بالقتل، وبقيا من دون مساءلة قضائية". يُذكّر كذلك بالقاضي الذي أقر قانوناً ينصف المرأة لم يعجب أحد السياسيين فجرى نقله من منصبه إلى مكان أقل فعالية. برأي صاغية تأخذ القضية أبعاداً عدة. "لا شك أن القضاء لا تزال أبوابه مغلقة بوجه الإعلام والرأي العام". وهنا يصوّب صاغية على تقصير الإعلام في الدخول إلى كواليس القضاء وفضح التجاوزات. التقصير أيضاً يقع على عاتق مؤسسات المجتمع المدني التي "نادراً ما تحمل لواء تحرير القضاء، وتكتفي باتهامها له بالتبعية السياسية".
هنا يشير مصدر قضائي لـ"فرانس 24" بأن القاضي يحتاج إلى حصانات تمنع خضوعه للسلطة السياسية وفي النهاية "هو ليس قديساً". أبرز الحصانات جعل مجلس القضاء الأعلى سلطة دستورية فعلية مستقلة بدل تعيين أغلب أعضائه من السلطة السياسية، تحرير التشكيلات القضائية من الإرادة السياسية وعدم نقل القاضي من مركز عمله إلا بموافقته. هنا يعود صاغية ليؤكد على دور الرأي العام الذي قصّر مثلاً في الوقوف إلى جانب القاضي عندما نقل من منصبه، فـ"المطلوب اليوم ليس محاربة القضاة بل الوقوف إلى جانبهم في وجه السلطة السياسية".

"زعيم الطائفة يحميني"
ما سبق مطالب محقة وذات أولوية لكن الإجابات التي حصلنا عليها من عدد من المارين أمام قصر العدل عند سؤالهم عن رأيهم بعبارة "العدل أساس الملك" تشير إلى أولوية أخرى في هذا الإطار. أحد المواطنين قال "الجميع أسوأ من بعضه، القضاة أساساً أدوات عند السياسيين"، آخر قال "لا أحد غير زعيم الطائفة يقدر أن يعطيني حقي". من هنا ضرورة البدء بنشر ثقافة حقوقية مجهولة من كثير من المواطنين والمتقاضين، الذين يتماهون في كثير من الأحيان مع السلطة السياسية. البدء يكون إذا بالتوعية حول البيئة القضائية، أسيرة "دهاليز" الغموض، بعدها يمكن الحديث عن تحرير القضاء من السياسة.

 هيفاء زعيتر

الرسالة الإخباريةأبرز الأحداث الدولية صباح كل يوم

ابق على اطلاع دائم بالأخبار الدولية أينما كنت. حمل تطبيق فرانس 24